دعم الموسوعة:
Menu
Category: كتب تحدثت عن الموسوعة
Pages: 288
ISBN: ISBN: 9781908286147
Library: مكتبة الإمام الحسين الخاصة - لندن
Location: بيت العلم للنابهين، بيروت - لبنان
Year: 2004

Hits: 3931

Lent status: Available

Availability: 0/0

 5 / 1
PoorBest 

Review

العقل والنقل .. جدلیة الصراع المعرفی المزمن بین منهجین

لم یخلق الله خلقا أحسن ولا أطوع ولا أرفع ولا أشرف ولا أعز من العقل، فبه یسعد المرء أو یشقى، وبه یتعالى المرء أو یتسافل، ولا یکون المرء عاقلا إلا اذا شغّل ماکینة عقله وحرَّک عجلاتها بما ینفعه والدوائر المحیطة به، من أسرة وعشیرة ومجتمع وأمة وبشریة، فکلما تفتق عقله عن خیر توسعت دوائر إشعاعه الى مدیات أکبر وأکبر، ولا یکون الأمر سهلا، ولکن الصعاب تتذلل کلما صعد المرء مراقی العلم، فلا علم بلا عقل ولا عقل بلا علم، فـ (العقل خلق من نور) کما یقول نبی الرحمة والسلام محمد بن عبد الله (ص)، و(العلم نور) کما یقول صلوات الله علیه، وأمکن بذلک تشبیه نسبة العقل الى العلم، کالشمس الى القمر، فالشمس سراج متوهج والقمر النور المنعکس من ضیاء هذا السراج، وکما لا تستقیم الحیاة إلا بضیاء الشمس ونور القمر، فان حیاة البشریة لا تستقیم إلا بضیاء العقل ونور العلم، وکما یقول أبو ذر جندب بن جنادة الغفاری (ت 31 هـ): "یا جاهل تعلّم فان قلبا لیس فیه شیء من العلم کالبیت الخراب الذی لا عامر له".

وعند قراءة نصوص التراث بأطیافه المختلفة من نصوص دینیة وتاریخیة وأدبیة وغیرها، یتبدى مفهوما (العقل والنقل)، بوصفهما المفتاح الهادی الى فتح مغالیق النصوص، وتبرز الأهمیة أکثر لدى الفقیه عند قراءته النصوص الدینیة من قرآن کریم وسنَّة، لتوظیفها فی مجال الاجتهاد والإفتاء، فمنهم من یجرد النصوص المنقولة عن العقل، فیتوقف على النقل ویتسمَّر علیه دون أن یعمل عقله فی استنباط ما یواکب تطورات العصر، مظهرا الدین الاسلامی الحنیف بمظهر التخلف والرجعیة، ومنهم من یسلط ضیاء العقل على النصوص، لیستنبط من النقول ما ینفع الناس الآن وفی المستقبل، دون أن یعتدی على حریم النصوص أو أن ینتقص من قائلها، مظهرا الدین الاسلامی الحنیف کما یجب أن یکون، وهو کذلک، بوصف الإسلام الخاتم للأدیان، وبوصفه الداعی الى العلم والتجربة وبناتهما، ولا یتقاطع معهما.

وتمتلک المدرسة الفقهیة العقلائیة التی تلزم الفقیه إعمال عقله وتشغیله عند الاستنباط، فی الوقت الحاضر أعمدة عدة، بانت للأدیب والأکادیمی العراقی، الأمین العام للمجمع العلمی للبحوث والدراسات فی لندن، الدکتور هادی حسن حمودی، إحداها فعقد معها حوارا فکریا قرأ فیه منهج الفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق محمد الکرباسی فی التعاطی مع العقل والنقل، صدر الحوار مؤخرا على هیئة کتاب من 288 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن بیت العلم للنابهین فی بیروت، حمل عنوان: "حوار مع دائرة المعارف الحسینیة للکرباسی .. العقل والنقل"، تعرض فیه الباحث الى فصل "العقل" فی ثمان صفحات استله من مجلد "الحسین والتشریع الاسلامی" للکرباسی، فی جزئه الأول الصادر فی طبعته الأولى العام 2000م، عن المرکز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 538 صفحة من القطع الوزیری.

ولما کان الحوار ینطوی على موافقات ومخالفات فی الرأی، فان الدکتور حمودی وبأسلوبه النقدی الممتع، یقدم للکتاب تحت عنوان "ما أفسد الخلاف للود قضیة"، وهو بذلک ینبیک قبل أن تلج باب الحوار، إن قراء أفکار الفقیه الکرباسی، هی قراءة فکریة تقترب من العقلانیة بقدر اقتراب العقل من النقول، وتبتعد عن التراثیة بقدر ابتعاد العقل عن النقول، وبذلک فان المؤلف یقدم نفسه کباحث عقلانی، وهذا شأنه فی الکثیر من مؤلفاته الأدبیة والنحویة، کما انه یضع صاحب دائرة المعارف الحسینیة فی مصاف العقلیین الداعین الى استخدام العقل وتفعیلة فی کل مناحی العلم على غرار أصحاب الاتجاه العقلی أمثال، أبو الحسن مقاتل بن سلیمان الأزدی (ت 150هـ) صاحب کتاب تفسیر القرآن (تفسیر مقاتل البلخی)، والخلیل بن أحمد الفراهیدی الأزدی (100-175هـ) صاحب کتاب العین، وجابر بن حیان الکوفی الأزدی (120-198هـ) صاحب کتاب الکیمیاء، وأبی محمد عبد الله بن محمد الأزدی الصحاری (ت 466هـ) صاحب کتاب الماء، واحمد بن فارس (306-395هـ) صاحب کتاب النقد الأدبی.

ولأن موسوعة دائرة المعارف الحسینیة فاقت أعداد مجلداتها الستمائة مجلد دون أن یکون للفقیه الکرباسی جیش من العاملین فی الحقول المختلفة کعادة الموسوعات التی ترصد لها الحکومات والمنظمات الملایین من الدولارات والمئات من المحققین، فان المصنف رغم تقاطعه فی بعض مفاصل الحوار وتألیفه وتحقیقه لأکثر من 35 مصنفا، یقر: "والحق إنی لینالنی العجب والاستغراب کلما اطلعت على جزء جدید من تلک الموسوعة التی قد تتجاوز الخمسمائة مجلد، وهی تحاول الإحاطة بکل موضوع ذی علاقة بعنوانها، فی عصر عزّ فیه القارئ، وندر فیه المؤلّف المخلص لقناعاته، وأندر منه مَن عبّر عنها بأناة وتأنٍّ واستقصاء، عملا بحریة الفکر والمعتقد التی ضمنتها أدیان السماء وقوانین الإنسانیة، وبخاصة فی عصرنا هذا".

توزع الکتاب على ثمانیة فصول، صال قلم المصنف فی میادین الفکر والفقه والتفسیر واللغة والعلوم والأدب، مع بیان عدد من التطبیقات الحدیثة على علاقة العقل بالنقل.

قرأ المصنف فی الفصل الأول وتحت عنوان (العقل وعلاقته بالتشریع) ما جاء فی فصل العقل من کتاب (الحسین والتشریع الاسلامی)، فأقرّ: "إن مسألة العقل وماهیّته ودوره فی حیاة البشریة مسألة شائکة شغلتنی، وما زالت تشغلنی، فالعقل لیس شیئا مادیا، بل هو اصطلاح على تلک القوة الهائلة التی ینتجها تشغیل الدماغ، أو قل تشغیل المخ وما یتعلق به"، أو حسب تعبیر الفقیه الکرباسی: "القوة التی یدرک بها الانسان ویحکم من خلالها على مدرکاتها، وإنما سُمی العقل لأنه یعقل صاحبه عن التورط فی المهالک". من هنا فان المصنف یفصّل القول فی بیان الدلالة اللفظیة والمعنویة، ودور العقل فی التشریع الاسلامی عند الاجتهاد والاستنباط، لینتهی الى القول: "وباعتبار الشیخ المؤلف أحد کبار فقهاء العصر، على الرغم من عزوفه عن الاعتراف بهذه الحقیقة التی یلمسها کل من اقترب منه، وانصرافه الى العنایة بدائرة المعارف الحسینیة التی وهبها جلّ وقته وعصارة معارفه.. فانه عُنی عنایة خاصة بـ (العقلیة) التی یجب على الفقیه أن یحظى بها، والتی لا یحق للمرء أن یعلن فقاهته وقدرته على استنباط الحکم الشرعی من غیر أن یتمتع بتلک القدرة العقلیة". فتملک العقل لا یکفی لوحده وإنما لابد لمن یتصدى لاستنباط الأحکام الشرعیة، التوفر على (العقلیة) أی: "أسلوب التفکیر وإمکانیة التلاؤم مع الواقع بالانطلاق من المبادئ العامة والقواعد الکلیة التی جاء بها الإسلام من أجل أن تکون نتائج تلک العقلیة نافعة للناس ومیسرة علیهم شؤون دینهم". على أن تکون العقلیة کما یقول الفقیه الکرباسی: "قریبة من الفطرة الإنسانیة والواقع المعاش والمذاق الاسلامی".

وینتقد المصنف اولئک الذی یجمدون على النصوص ویهبون لعقولهم إجازة مفتوحة، واضعین الناس بفتاواهم فی مخمصة وحیص بیص، ویتساءل: "هل یمکن أن نأخذ برأی من یحرّم على المرأة استعمال الهاتف (التلفون) لأن لفظه مذکّر، ویحرّم علیها أن تنام قرب الجدار أو الحائط للعلة نفسها!! ولا أدری لماذا لا یحرم على المرأة أن تقف الى جوار الطبّاخ (آلة الطبخ) أو القِدر ولفظ کل منهما مذکّر أیضا!!".

ویشرح المصنف بشیء من التفصیل العلاقة بین العقل والعلم بوصفهما: "أمران متلازمان. العقل موجود منذ أن ظهر الإنسان على سطح الأرض، والعلم ناتج من نتائج (تشغیل) ذلک العلم". ویرى وجود علاقة لفظیة بینهما: "فاللفظان مشترکان فی حرفین هما (العین واللام) وانتقل (القاف) من وسط لفظة (عقل) الى (میم) فی آخر لفظة (علم)". ویخلص المصنف فی نهایة الفصل الأول الى التأکید بأن: "العلم لا وجود له إلا مع العقل. والعلم نتیجة طبیعیة لحسن استخدام المرء لعقله، وخضوعه لأحکامه. والعقل من غیر علم مجرد هوىً وعاطفة لا یعتمد علیهما ولا یعتد بهما فی التطور الحضاری".

ویتخذ المصنف من العقلیة العلمیة منطلقا، لیبحث فی الفصل الثانی "علاقة العقل بالاجتهاد والشورى"، فلا یقصر قوله على الاجتهاد الفقهی، وإنما یوسعه الى: "الاجتهاد فی جمیع شؤون الحیاة من طلب علم نافع وأداء عمل صالح، وإدارة أمور الحیاة الیومیة، سواء کانت الحیاة  الخاصة للفرد أم الحیاة العامة للمجتمع، وإبداء الرأی الناضج فی الشؤون العامة، وهو ما اصطلح علیه الناس باسم الشورى". وبهذه التوسعة العقلائیة یقرر انه: "لا شورى من غیر اجتهاد، ومَن توفر فیه شرط الاجتهاد فی علم أو عمل أو تخصص ما، کان له أن یصیر من أهل الشورى، وحق على المجتمع أن یستمع لرأیه" بلحاظ إن الشورى قیمة حضاریة، کما انه: "فی أزمنة التألق الحضاری للمسلمین، کانت الشورى المبنیة على الاجتهاد وما یتضمنه من أخلاق سامیة نبیلة، جناح الأمة فی التحلیق عالیا فی سماء التقدم والتحضّر والرقی. وحین تناسى الناس الاجتهاد والشورى، ضعفت الدولة حتى آلت الى السقوط رویدا رویدا". وحتى تعود الأمة الى سابق عهدها قویة مهابة، علیها أن تسلک طریق الاجتهاد والشورى، ولکن: "لا اجتهاد ولا ابتکار ولا إبداع ما لم یکن منبثقا من الأصول والأسس التراثیة والخبرات التی اکتسبتها الأجیال السابقة، وأن یکون البناء على تلک الأصول والأسس منعا لأی تفرّق أو تمزّق فی النسیج الحضاری للمجتمع".

وینتقل المصنف فی الفصل الثالث الى تبیان "الاتجاه العقلی والتیار النقلی"، وفرّق بین الاتجاه والتیار، بلحاظ أن الأول فیه تجدید، والثانی فیه تواصل وتدفق بلا انقطاع والتزام بحرفیة النص، ویخلص الى إن: "النقل، على أهمیته لا یغنی عن إعمال العقل وتشغیله، ولا یغنی عن طلب العلم النافع وأداء العمل الصالح، وما الصلاح إلا ما فیه نفع الناس والبلاد". ویعتبر المصنف تحت عنوان فرعی "القرآن والاتجاه العقلی" إن: "القرآن الکریم رائد الاتجاه العقلی لحثه المتواصل على إعمال العقل وتشغیله، وعلى طلب العلم" مستشهدا بآیات عدة.

ویتخذ المصنف من العنوان الفرعی مدخلا الى الفصل الرابع لبحث "میدان التفسیر القرآنی"، ناعیا على بعض التفاسیر استغراقها فی النقل وإعراضها عن العقل، رغم أن بعض ما تنقله مما لامسته ید التحریف وظللته غربان الأهواء، ویتعارض مع قطعیات العلم. وفصّل القول فی بیان معالم "تفسیر مقاتل" للقرآن الکریم، لأبی الحسن مقاتل بن سلیمان الأزدی البلخی، نسبة الى بلخ من مدن خراسان حیث ولد فیها، وهو من رواد الاتجاه العقلی بوصفه: " أول من فسّر القرآن الکریم تفسیرا کاملا لا یعتمد على النقل، بل على تشغیل العقل وتنشیط الذهن". وحاول المصنف وتحت عنوان فرعی "شبهات التدلیس والکذب" أن یرفع عن مقاتل شبهة التدلیس والکذب، بتفصیل القول فی بیان سنة ولادته، للتأکید بصدق روایته عن مجاهد بین جبر المکی المتوفى فی سنة 104، وانه کان شابا حین روى عنه، کما روى عن الضحاک بن مزاحم المتوفى فی سنة 102 أو 105، وانه لم یکن حینها صغیرا. على انه یصح روایة الصبی، فیحملها صغیرا وینقلها کبیرا، کما فی روایة السیدة زینب بنت علی بن أبی طالب (6-62هـ) التی روت خطبة أمها فاطمة الزهراء فی مجلس الخلیفة أبی بکر، حیث حملتها واستوعبتها وهی صغیرة ثم نقلتها وهی کبیرة، بل لا یستبعد الفقیه السید محمد الشیرازی (1347-1422هـ) حجیة قول الصبی الممیز، إذ: "لو روى وهو ممیز فلا یبعد القول بالحجیة أیضا لبناء العقلاء على ذلک وللسیرة ولغیر ذلک" (راجع: الشیرازی، فقه الزهراء.. خطبتها فی المسجد، بیروت، دار الصادق، ط1، 1419هـ/1998م، ج1 ص61).

ومن میدان التفسیر ینتقل المصنف فی الفصل الخامس الى "المیدان اللغوی .. الخلیل بن أحمد"، بوصف الفراهیدی واحدا من رواد الاتجاه العقلی الذی استطاع أن یشغل عقله، فیأخذ بالعقل مستفیدا من النقل، وکان من إبداعات العقل انه تمکن من استنباط إیقاعات موسقى الشعر، وعن طریقها ضبط أوزن ذلک الشعر وبحوره. على أن الفقیه الکرباسی استحدث العشرات من البحور الجدید، نقرأها فی کتاب (هندسة العروض). والى جانب میدان العروض، اشتهر الخلیل بن احمد الفراهیدی فی میدان اللغة وکتاب العین، والمیدان النحوی وکتاب النحو، الذی حقق فیه الدکتور حمودی ونزع تألیفه عن سیبویه عمرو بن عثمان بن قنبر (ت 177هـ)، وأرجعه الى الفراهیدی، حیث: "نعتقد جازمین أن الکتاب المنسوب لسیبویه، هو کتاب النحو للخلیل بن أحمد، مع إضافات أضافها سیبویه، هنا وهناک، لا تخل بأن الکتاب للخلیل".

ویتحول المؤلف فی الفصل السادس، من المیدان اللغوی الى "میادین العلم"، لیتحدث عن جابر بن حیان الکوفی الأزدی الذی اشتهر بریادته لعلم الکیمیاء، وأبو محمد عبد الله بن محمد الأزدی، بوصفه من رواد الاتجاه العقلی فی التراث العربی. فالأول: "کان مبدعا حقا، وهو احد رواد الاتجاه العقلی الساعی وراء التجربة العلمیة" والثانی: "اتخذ من التجربة وسیلة للوصول الى تشخیص الأمراض ووضع العلاجات لها، وکذلک الى الحدیث عن وظائف الأعضاء، وقد ذکر فی کتابه (الماء) ما یشیر الى معرفته بالدورة الدمویة فی الجسم، والى کیفیة الإبصار، وکیفیة تکوّن الذاکرة لدى الانسان".

ومن میادین العلم الى میدان الآداب فی الفصل السابع والحدیث عن "أحمد بن فارس"، بوصفه ممن: "رسّخ الاتجاه العقلی فی دراسة الآداب واللغة ونقد النصوص، حتى اضطره الجوع والفقر الى التحول الى التیار النقلی فی أواخر حیاته"، واشتهر ابن فارس انه أول من اخترع: "مصطلح (فقه اللغة) إذ لم یکن العرب یعرفون هذا المصطلح من قبله، فجعله عنوانا لکتابه (الصاحبی فی فقه اللغة وسنن العرب فی کلامها)"

ولتوضیح قصور النقل عن بیان کامل الحقیقة، فان المصنف فی الفصل الثامن والأخیر یقدم ثلاثة "تطبیقات عملیة معاصرة"، التطبیق الأول هو "خرافة اللهجات وأساطیرها"، مؤکدا إن الذین درسوا اللهجات العربیة: "تناسوا أولیات شروط البحث العلمی، وأبرزها قراءة النصوص قراءة واعیة، لا کنصوص منفصلة عن حرکة المجتمع، وقائمة بذاته، وکأنها جزر مستقلة عن المؤثرات التی حولها". من هنا فانه یرى أن الحدیث عن لهجات عربیة إنما هو حدیث عن وهم، قال به البعض وسار علیه المعاصرون من النقلیین، الذین لم یأتوا بجدید غیر استنساخ أفکار بعض المستشرقین، فلو أنهم أعملوا عقولهم لبان لهم أن الاختلافات الموجودة فی بعض المفردات: "لا تقوى على خلق اختلافات جذریة بین لهجة وأخرى، ولا یمکن أن یبنى علیها أن العرب هم مجموعة أقوام ولیسوا قوما موحدین أساسا". على إن الفقیه الکرباسی، یعتقد إن المفردة الدارجة بشکل عام إما محرفة من أصولها الفصحى أو مخففة عنها، درج على تناقلها، أو اقتصر استخدامها فی منطقة دون أخرى، أو عمم استخدامها بعد ما کانت تخص حالة معینة، أو إنها دخیلة.

وینتقد المصنف فی التطبیق الثانی تحت عنوان "القرآن الکریم قراءة واحدة" القول الشائع بالقراءات المتعددة للقرآن، ویرى إن القرآن نزل بقراءة واحدة، والقراءات إن کانت سبعة أو عشرة أو أربعة عشر وأوصلها البعض الى 36 قرءاة، هی من صنع من أتى بعد الرسول محمد (ص) بأکثر من قرنین، ثم أصبح النقلیون عیالا على السلف دون أن یُعملوا عقولهم. ویستعرض عددا من القراءات لآیات قرآنیة، مفندا الاستدلالات التی أتى بها النقلیون، مؤکدا إن تعدد القراءات لکلمة داخل آیة یغیر من المعنى ومن الحکم، فلا یصح العمل بها، لان حکم الله واحد. ویعبر المصنف عن استغرابه الشدید کون: "القراءات على اختلافاتها ینتهی سندها الى النبی، وکأنه (ص) کان یقرأ کل حین بما یختلف عن قراءته السابقة!!"، فلا یرى من الصواب الأخذ بالقراءات، وهو رأی یؤیده فیه الفقیه الکرباسی الذی لا یرى للقراءات من حجیة.

وتحت عنوان "فی تحقیق النصوص" ینتقد المصنف فی التطبیق الثالث والأخیر اولئک الذین یتناولون کتب التراث بالتحقیق فیملأون الکتاب بالحواشی والهوامش التی لا غناء فی معظمها، فهو یحشی النقل بنقل آخر، دون أن یترک السبیل لعقله للإبداع، وبعضهم یصل به الجمود تحت عنوان التقدیس غیر المبرر فیترک کتب التراث على حالها دون تطویرها حتى ولو من باب الشکل والمظهر.

فی الواقع إن الکتاب بتنوع میادین بحثه ودوائره، أشبه بصخرة عقلیة یرمی بها الکاتب فی بحیرة النقل، لیحرک ساکن التراث ویکشف عن معادنه.