دعم الموسوعة:
Menu
Category: سلسلة الشرايع
Editor: شيخ حسن رضا الغديري
Pages: 56
ISBN: 9781908286482
Library: مكتبة الإمام الحسين الخاصة - لندن
Location: بيت العلم للنابهين، بيروت - لبنان
Year: 2012

Hits: 9702

Lent status: Available

Availability: 0/0

  / 0
PoorBest 

Review

عفو عام یتجاوز المساءلة ویقفز على الاجتثاث!

بین الفینة والأخرى تعلن الحکومات عن عفو عام عن المعارضین وکذا الفارین من خدمة العلم أو أصحاب الجنح، وتتلمَّسُ بلین الکلمات ولطائفها منهمُ العودة إلى صفوف الشعب وأحضان الوطن والعمل معاً من اجل بناء البلد والدفع به نحو الرقی والتقدم، وهی عبارات طالما ألفناها وسمعناها من حکومات طابعها شمولی، لأن المعارضة وهی أمر قائم لا مندوحة عنه فی عالم السیاسة تأخذ فی الحکومات الشمولیة طابع العنف والعنف المضاد، فتأتی السیاقات الحکومیة لکسر شوکة المعارضة السلمیة وغیر السلمیة وتقلیم أظافرها، ومن الطبیعی أن تنشأ فی مثل هذه الأجواء مجموعات خارجة على القانون تعبث بمصالح الأمة، وقد تتلبس الأخیرة لبوس المعارضة فیضیع الحابل بالنابل، فیرکب صالح المعارضة السیاسیة وطالح المخالفة القانونیة قارباً واحداً، وهو من سیئات الواقع السیاسی فی أی بلد، لأن النتیجة فیما لو تغیر نظام الحکم أن تضیع الموازین ویصبح أمناء الأمة سرّاقَها، وسرّاقُها أمناءها، ویصعب على المواطن الحصیف التفریق بینهما فما بالک بغیره!

ومن الطبیعی أن عفو الحکومات لیس مفتوحا على آخره، فهو مقید بزمان وربما بمکان، ویستوجب فی معظم الأحیان نزع المعارض من کل أسلحته إن کانت بندقیة وعتاداً أو قلماً ومداداً، کما أن العفو مقید ومحدد مهما بدا للآخر أنه محبذ ومسدد، فالمدة الموضوعة سدود والشروط المعهودة حدود، ولذلک لا یستجیب الجمیع لعفو الحکومات الشمولیة، فالشک سید الموقف والخوف مولاه وإن أولى الحاکم لعفوه ما أولاه، وإن آب المعارض أو رجع المخالف، مشى بین ظهرانیی القوم خائفاً یترقب یتربصون به ریب المنون.

بید أن عفواً آخر من نوع مغایر لیس بحاجة إلى شروط، مفتوح الأبواب بلا حدود، یستقبل المعارض والمعاند وصاحب الجنحة والجنایة بلا عدِّ معدود فی السر والعلن، وإن کان الأولى فی الخفاء دون الجهر، هو العفو القادم من رب الممالک والأرباب الذی یدعو العبد فی کل آن وحین إلى الأوبة عن الحوبة وولوج دائرة التوبة، وهو ولوج سهل یستوعب کل النادمین عن الذنب صغر أو عظم، والعائدین إلى جادة الصواب المتنکبین عن حافة الخراب، ولأن التوبة بعینها عبادة إذا أقبل التائب على ربه خیر رفادة، کان لابد لها من أحکام تناولها الفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی فی کتیب "شریعة التوبة" الصادر حدیثا (1433هـ - 2012م) فی بیروت عن بیت العلم للنابهین فی 53 صفحة مستوعباً 84 مسألة شرعیة مع 43 تعلیقاً للفقیه القاضی الشیخ حسن رضا الغدیری، على أن المقارنة هی مقارنة تجوزیة لتقریب المعنى لا مقارنة حقیقیة، فرحمة الله وسعت کل شیء، وکلماتنا قاصرة عن أداء المعنى وإن تعددت قوامیس اللغة أو کثرت.

• عبادیة لا عبودیة

ولا یخفى أن هناک بوناً شاسعاً بین العودة إلى حکومة المعبود وحکومة الرب، فالأولى فی معظم الأحیان تتحول إلى أوبة تنطق معالمها وشواخصها بالذلة والعبودیة، فیکون الآئب أسیر سلطة العبد الحاکم، لها أن تأخذه فی أی وقت بما تراه جرماً سابقاً فیذعن العائد ویتملک وربما یمارس ما تمارسه السلطة من استعباد للآخر، فتصبح مثل هذه العودة عبودیةً ما بعدها عبودیةٌ، یندم علیها ویدعو على نفسه بالموت مُسکِّناً ألَمَهُ وبباطن الأرض مسکناً راحةَ بدنه، ولکن الرجوع إلى الله هی أوبة ظاهرها التحرر من الذنب وباطنها العبودیة للرب یتعامل معها المعبود تعامله مع العبادة فیحب الله التوابین کحبه للمتطهرین: (إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ) البقرة: 222، فالتوبة کما یرى الفقیه الکرباسی: (صحوة ضمیر تظهر على قلب المؤمن لیصحح مسیره بعد أن انحرف عن جادة الصواب والتی بوصلتها تتجه نحو الله)، ولهذا فالتوبة: (لطف إلهی فی اتجاهین، الأول: فی قابلیة النفس البشریة للإنفلات عن هذه الصحوة فی الضمیر، والثانی: فتح الله هذا الباب لإعادة العبد إلى مساره الطبیعی دون أن یطرده بمجرد العصیان، بل جعل التوبة بحد ذاتها عبادة).

 ولاشک أن التوبة عن الذنب أو المعصیة تتطلب تطهیر النفس من أدرانها بأدوات معنویة وممارسات مادیة تدخلان فی باب التعبد، فکل أداء حسن حتى النیة هی عبادة، والله یقبل التوبة من عباده وهو القائل فی محکم کتابه: (أَلَمْ یَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَیَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِیمُ) التوبة: 104، بل إنَّ الشک فی ذلک معصیة، وفی ذلک یقول الکرباسی: (الإعتقاد بأن الله لا یقبل التوبة بحد ذاته معصیة)، وهو یوجب الإثم کما یضیف الغدیری فی تعلیقه، وحیث لا ینبغی الیأس من رحمة الله فإن لا ینبغی تیئیس العبد من ذلک، ولذلک یرى صاحب الشریعة أنَّ: (القول للآخر بأنَّ الله لا یغفر لک فیما إذا وجده عاصیاً فإن هذا القول بحد ذاته محرَّم، وکذا الحلف على أنَّ الله لا یغفر لفلان، إلا إذا کان علماً فی الإجرام ولم تُعرف له توبة ولم تکن معصیته من موارد حقوق الناس)، فالإنابة هو مقصد الرب وهو الداعی فی محکم کتابه: (قُلْ یَا عِبَادِی الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ. وَأَنِیبُوا إِلَى رَبِّکُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَکُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الزمر: 53-54، فلا ینبغی من بحر رحمة الله القنوط، لأنه: (ومَن یَقْنَطُ مِنْ رحمةِ ربِّه إلاّ الضَّالُّونَ).

 ومن نافلة القول أن: (الإستغفار والإنابة والتوبة تتم إلى الله وحده دون غیره وحتى وإن کان من الأنبیاء والرسل لأن العصیان هو مخالفة أوامر الله ونواهیه، فالغفران منه وحده وطلب المغفرة إلیه وحده)، على أن الله وضع وسائل للتقرب إلیه، ولذلک: (یجوز التوسل إلى النبی الخاتم (ص) والأئمة المعصومین(ع) وتقدیمهم بین یدی الله لوجاهتهم عند الله وقربهم إلیه جل وعلا للصفح عنه، کأن یقول إلهی بحبِّک رسول الله إقبل توبتی واغفر ذنوبی واصفح عنی)، وعند الشیخ الغدیری: (بل ویستحب ذلک لأنَّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتوسل إلیهم(ع) والأدعیة المأثورة عن النبی(ص) وأهل بیته الطاهرین(ع) تدل بوضوح على محبوبیة التوسل).

 • مساحة الإنابة والإستغفار

وربما یجد البعض مائزاً بین الإستغفار والتوبة، لکن الکرباسی یرى أنَّ: (الإستغفار والتوبة شبه متلازمین، حیث إنَّ طلب الغفران هو ظاهر فی الإنابة والتوبة إلا والعیاذ بالله أن یکون من لقلقة اللسان)، فیما یرى الغدیری أنَّ: (الإستغفار أعمّ من التوبة فإنها عبارة عن الرجوع بعد الإرتکاب بینما الإستغفار یکون قبل الإرتکاب وبعده وحتى من دون ارتکاب أیّ ذنب فهو أمر مطلوب ومحبوب عند الله سبحانه وتعالى وفیه جانب من الدعاء)، وفی الحالتین فإنَّ الإستغفار والتوبة تتجاوزان حدود الفردیة إلى الجمع العام فیستغفر للآخر الفرد أو المجموع، للقریب أو الغریب، للرفیق المحالف أو الخصم المخالف، ولذلک کما یرى الشیخ الکرباسی: (یجوز الإستغفار للغیر ولا یحتاج إلى إذنه حتى وإن کان خصمه) بل: (وقد یستحب ذلک) کما یرى الشیخ الغدیری وهذه واحدة من موارد التآلف الجمعی والتراحم المجتمعی الذی یؤکد علیه الإسلام ویدعو إلیه لشدة لحمة المجتمع واستمطار رحمة الله.

ولیس للتائب إظهار توبته حتى یُقال أنه تائب أو یُشعر نفسه بالإطمئان تجاه الآخر أو استجلاب رضاه، فیکفی ذلک الأوبة والعودة دون ضجیج، بل یکفی: (الندم توبة) کما یقرر ذلک الرسول الأعظم(ص) وکما قال حفیده الإمام محمد الباقر(ع) : (کفى بالندم توبة)، والندم هو التوبة والأوبة کما یقرر الإمام علی بن أبی طالب(ع) مؤکداً أنَّ: (مَن ندم تابَ ومَن تابَ أناب)، ویقرر علیه السلام أیضا: (المقرُّ بالذنب تائب)، والندم على الذنب والعودة إلى رصیف الحق والعمل بمقتضى الحال هو مصداق التوبة النصوح التی یدعو إلیها رب الحکومات والأرباب: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّکُمْ أَنْ یُکَفِّرَ عَنْکُمْ سَیِّئَاتِکُمْ وَیُدْخِلَکُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ یَوْمَ لا یُخْزِی اللَّهُ النَّبِیَّ وَالَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ یَسْعَى بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَبِأَیْمَانِهِمْ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّکَ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ) التحریم: 8.

وبالتبع، فلا یصح للأوّاب الإشهار فإظهار المعصیة للآخر هی المعصیة بعینها کما یرى الکرباسی، وذلک: (مَن عصى الله یجب علیه کتمان أمره ولا یجوز له إظهار ذلک لأنَّ فی إظهاره حرمة ومعصیة ویجب علیه التوبة) ولذلک: (إذا تاب العاصی لا یجوز له إخبار أحد بالمعصیة) ولکن إذا أخبر بالمعصیة: (فلا إثم علیه، کما لا حدَّ ولا تعزیر علیه بل علیه أن یستغفر ویتوب) کما فی تعلیقات الغدیری، إذن من الخطل الإشهار لأنه قد یقع فی محرّم آخر وهو إشاعة الفحشاء المنهی عنها، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَنْ تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ یَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، فالله الرحیم بعباده کما فتح بابه للتائب صانه من الفضیحة، على أن المعصیة فیها جنبة اجتماعیة ولذلک فـ: (التوبة فی المعاصی التی فیها حقوق الناس لا تُقبل إلا بعد أداء تلک الحقوق أو کسب رضى أصحابها)، أما فیما یتعلق بحق الخالق فإن: (المعاصی التی لیس فیها حقوق الآخرین کترک الصلاة أو شرب الخمر، إذا تاب غفر الله له ذنبه فوراً) لأن الله أرأف بعباده من الأم برضیعها، وسبحانه وتعالى یرید خیر عباده فی الدنیا والآخرة، وهو أقرب إلى العبد من حبل وریده والمستجیب لدعوته، فالتوبة أوبة من الظلمات إلى النور، والله یحب النور لعباده.

 ومن منّا لا یحب غمرة النور والعیش فی بحبوحته؟ .. تساؤل فی غیر محله لجلاء النور فی رابعة النهار!