دعم الموسوعة:
Menu

هل تتعایش الدولة الإسلامیة مع نظام الحکم الذاتی؟

 

لا تختلف الأمة عن الفرد من حیث الأداء والتبعات، فما یترکه الفرد من ذکرٍ، حسناً کان أو سیئاً، تترکه الأمة، ویعظم مثل هذا الأثر إذا تخطى محیط الأمة الأصل، فهو ینبع من المسؤولیة، وبحجمها تتسع دائرة الأثر أو تقل، وقد خلقت عملیة الاحتکاک بین المسلمین وغیرهم من الشعوب غیر المسلمة حالة من القبول أو الرفض تبعاً للمسؤولیة التی یظهرها القادم من وراء الحدود تاجرا کان أو محاربا، مهاجراً کان أو لاجئاً، وطبیعة تعامله مع أهل الدار، ومدى التزامه بالنصوص القرآنیة القطعیة الرافضة لحمل الآخر على دخول الإسلام خلاف إرادته.islam-in-armenia.jpg

من هنا فإن الأمة التی احترمت إرادة الأمم الأخرى، ساهم مسارها فی تثبیت قواعد العلاقة الأخویة تحت شعار الإسلام الذی رفعه الإمام علی بن أبی طالب (ع) فی عهده لوالیه على مصر مالک الأشتر النخعی المستشهد فی بلدة الخانکة (المرج الجدیدة) خارج القاهرة عام 37 هـ، : "فإنهم – الناس- صنفان إما أخ لک فی الدین وإمَّا نظیر لک فی الخلق" (نهج البلاغة: 3/605، کتاب: 53)، وهذا التصنیف فی واقعه لیس تنظیرا أو حبراً على ورق أو جلدة غزال نعلقها على جدار غرفنا وصالاتنا للزینة، وإنما هی ممارسة وأداء تنزل من علیاء الجدار الظاهری إلى علیاء الأرض الواقعی، فالمجتمعات المسلمة التی طبقت هذا المفهوم القیمی مع نظیراتها من المجتمعات الأخرى کانت على قدر من المسؤولیة والتزامها بمفهوم التعامل مع الآخر الإنسانی، وبفضل هذه المسؤولیة نجد بعض الکتابات وحتى یومنا هذا یذکر المسلمین الذین حلُّوا على بلدان الأرض بالخیر، وهذا التوجه لیس منَّة على المسلمین بقدر ما هو تثبیت لحقیقة أتى بها الإسلام وطبقتها الأمة الإسلامیة فی بعض مراحلها، وهی دعوة قائمة حتى الیوم.

ولهذا، فان الأمة الأرمینیة على سبیل المثال، وإلى الیوم تذکر المسلمین الذین دخلوا أرضها فی القرن الأول الهجری بخیر، بل یعتقد البعض أن أرمینیا عاشت أول تجربة حکم ذاتی فی العهد الإسلامی کما یذهب إلى ذلک الباحث السوری الأرمنی المعتقد المولود فی حلب عام 1954 م الدکتور أوادیس بن أرشاور استانبولیان وهو فی معرض إعداده وتقدیمه وتعلیقه على کتاب "الإسلام فی أرمینیا" للمحقق الدکتور الشیخ محمد صادق الکرباسی الذی صدر نهایة عام 1431 هـ (2010 م) عن بیت العلم للنابهین ببیروت فی 72 صفحة من القطع المتوسط، وهو أمر ذهب إلیه المؤلف وهو یستعرض حرکة التاریخ الإسلامی فی أرمینیا ودخول المسلمین إلیها فی العام 25 هـ بقیادة حبیب بن مسلمة الفهری (2ق.هـ- 42 هـ) وعلاقة الحکومات الأرمینیة بالعاصمة الإسلامیة عبر التاریخ، ویشهد على مظاهر العلاقة الحسنة کما یقول المعد: (عهود الصلح وکتب الأمان المحرَّرة من قبل الخلفاء العرب حول حق الأرمن فی ممارسة شعائرهم الدینیة والحفاظ على تقالیدهم بکل حریة وأدى هذا إلى خلق جو ملائم لنشاط الأرمن فی الخلافة العربیة وأفسح المجال أمام مشارکتهم فی الحیاة الإقتصادیة والسیاسیة والثقافیة للدولة. وسجَّل التاریخ صفحات مشرقة من النضال المشترک لأمراء الأرمن والعرب ضد الدولة البیزنطیة والغزاة الأجانب).

رسول السلام

ولا یخفى أن کثیراً من أهل أرمینیا تقبلوا الإسلام طواعیة، فهو دین الفطرة، وکان فیهم الکثیر من القادة والأعلام الذین أثروا العالم الإسلامی، ولاسیما فی مجال الأدب واللغة والطب، وتظل اللغة العربیة هی الرسول إلى الأمم الأخرى، فهی التی تدخل قلوب الناس وعقولهم دون الحاجة إلى إشهار السیف، ولأن اللغة العربیة هی لغة الأدب فإنها أقرب الى القلوب، وهذا الأمر تحقق بقدر مع الشعب الأرمنی کما یذهب إلى ذلک البحاثة الکرباسی، ولذلک ظهر أدباء أرمن کتبوا باللغة العربیة، کما: (إن العدید من الکتابات فی أرمینیا والنقوش العربیة على الحجر التی تعود الى القرون الوسطى تشهد على رواج اللغة العربیة وعلى المکانة الرفیعة التی احتلتها هذه اللغة فی النفوس، ولعل من أقدم هذه النماذج تلک المسماة بکتابات "زفارتنوتس" التی یعود تارخها الى الثلث الثانی من القرن الثانی الهجری – النصف الثانی من القرن الثامن المیلادی- وقد تنوعت مثل هذه الکتابات حتى أصبحت منتشرة بکثرة فی جمیع أرجاء أرمینیا)، ویضیف الدکتور استنابولیان معلقا على کلام المحقق الکرباسی: (إن المعاملات والأعمال الدیوانیة المختلفة کانت تجری باللغة العربیة. ووفق المصادر فقد کانت طبقة التجار والإقطاعیین من أکثر شرائح المجتمع استعمالا للعربیة کما وانتشرت العربیة لدى ممثلی الطبقة العلیا فی المجتمع کأسرة الباقرادونیین والزاکاریین وغیرهم، ومن آثار ذلک انتشار الأسماء العربیة لدى ممثلی هذه الطبقة وانتشار الزیجات المخلتقة أیضا)، لکنه فی الوقت نفسه یرى أن التأثیر حصل بشکل واضح مع الأرمن الذی هاجروا وعاشوا فی بلاد الشرق الأدنى، حیث: (تحولت- اللغة العربیة- إلى وسیلة تواصل یومیة ولغة إبداع رئیسة لبعضهم ومنهم من دوّن نتاجه باللغة العربیة رافداً بذلک الحضارة العربیة) ویضیف الدکتور استانبولیان، لقد: (تحولت اللغة العربیة إلى لغة قریبة من قلوب الأرمن القاطنین فی الدول العربیة لأنها أصبحت وسیلة للإحتکاک والتواصل الحضاری مع الشعب العربی الشقیق ودخلت فی أرمینیا الأبحاث المتعلقة باللغة العربیة نطاق البحث الأکادیمی ولقیت رواجاً فی مراکز الدراسات والیوم یزداد باطراد إهتمام أبناء شعبنا تجاه لغة الشعب العربی الصدیق ولهجاتها المختلفة)، بل أن المفکر التربوی ریتیوس کریکوریان کما یذکر الدکتور استانبولیان یقطع بأن: (اللغة العربیة لغة رائعة لا مثیل لها).

ویفهم من ذلک أن الأرمن فی بلادهم کانوا ألصق بدینهم حیث لم یقصرهم المسلمون على تغییر الدین، والجزیة التی وضعها الإسلام هی مساویة للخمس التی وضعها على المسلمین، فهی ضریبة بمفهوم الیوم تشمل المواطنین مسلمین وغیر مسلمین، وبالأساس فإن قوله تعالى: (لکم دینکم ولی دین) الکافرون: 6، هو الحاکم على العلاقات بین المسلمین وغیر المسلمین بخاصة فی البلد الواحد، بلد المواطنة، من هنا فان الدکتور استنابولیان فی تقدیمه لکتاب العلامة الدکتور الکرباسی یرى أن: (الأرمن هم أول شعب اعتنق المسیحیة وجعلها العبادة الرسمیة للدولة الأرمنیة فی عام 301 میلادی)، کما أن للأرمن: (أدب محلی راق مدون باللغة الأرمنیة وتاریخ ثقافی عریق وتقالید راسخة سبقت الفتح العربی)، من هنا والکلام له: (عندما أتى المحمدیون إلى أرمینیا وجدوا شعباً واعیا استوعب الرسالة السماویة الإسلامیة السامیة من الجانب الروحی لأنهم کانا على مستوى عال من الروحانیة من خلال ممارساتهم للتعالیم المسیحیة الروحیة السمحاء).

إذن فالعلاقة بین المسلمین والأرمن هی علاقة متمیزة نجد مظاهرها فی الأرمن المتوزعین فی عدد من البلدان المجاورة والقریبة لأرمینیا مثل إیران وبلاد الشام ومصر، لهم مشارکة ملحوظة فی الحیاة الیومیة مع المسلمین والعرب ولهم حضورهم فی العملیة السیاسیة، فضلا عن حضورهم فی مجال الأدب والثقافة، وکما یقول المعد: (الأرمن واعون للقیمة الروحیة للقرآن الکریم وتواقون لمعرفة مضمونه المقدس، ودلیل على ذلک وجود ترجمات أرمنیة لمعانی القرآن الکریم منذ بدایات القرن العشرین)، بل أن الدکتور أوادیس استانبولیان نفسه یعتبر نموذجا لهذا التواصل الثقافی بین الأرمن والمسلمین، حیث قام بإعادة تنضید ترجمة السید لیفون لارینتس للقرآن الکریم عن ترجمة فرنسیة فی اسطنبول مع ترجمة السید نوبار أمیرخانیان فی بلغاریا عن اللغة العربیة مباشرة، وبعد التنضید قام الدکتور استنابولیان فی التحقیق فی المعانی لکی یکون القرآن الکریم متاحاً لکل أرمنی أینما وجد، وإلى جانب التحقیق فی ترجمة القرآن فإن له اهتمامات کبیرة فی الدراسات القرآنیة حیث قدم 320 بحثاً حول سور القرآن الکریم وأهل البیت (ع) فی مجلس "آدم القرآنی" المنعقد فی دمشق بشکل دوری، ولأنه أدیب وشاعر فقد أعاد صیاغة نصوص الصحیفة السجادیة لإمام المسلمین علی بن الحسین السجاد (ع) المتوفى سنة 92 هـ، بطریقة الشعر الحدیث.

أسماء وإنجازات

تحتفظ أرمینیا بمکانة کبیرة فی قلوب المسلمین، ویمکن إدراک الأمر من خلال التعرف على بعض الأسماء الأرمینیة وطنا والأرمنیة دیناً، وما نعنیه بالوطن إشارة إلى الأرمن إن کانوا من المسلمین أو من الأرامنة، وما نعنیه بالدین إشارة إلى الأرامنة، لأن أرمینیا إنما سمیت بذلک کما یقول یاقوت بن عبد الله الرومی الحموی المتوفى سنة 626 هـ: (نسبة إلى أرمینا بن لنطا بن أوقر بن یافث إبن النبی نوح (ع) فکان هو أول من نزلها وسکنها فعرفت باسمه) (معجم البلدان: 1/160)، ویسکنها 93 فی المائة من الأرامنة الذین ینتمون إلى مجموعة القومیات الهندوأوروبیة الذین انشقوا بالأساس عن المذهب الکاثولیکی فی القرن الثالث المیلادی، و3 فی المائة من الآذریین، و2 فی المائة روس ومثلهم من الکرد، وعاصمتها إیروان وتلفظ یریوان أو یریفان، فأصبح الوطن ملازماً للمعتقد فی داخل حدود أرمینیا، لکنهم انتشروا خارج الحدود.

ومن الأسماء اللامعة ممن تعود أصولهم إلى أرمینیا: الفقیه محمد بن صالح الأرمنی وهو من أصحاب إمام المسلمین الحسن بن علی العسکری المتوفى فی سامراء سنة 260 هـ، والوزیر المصری أبو النجم بدر الأرمنی الجمالی المتوفى سنة 487 هـ الذی اشتهر بتکریم العلماء والأدباء والشعراء، والحاکم المصری الملک الصالح طلائع بن رزیک بن الصالح الأرمنی المتوفى سنة 556 هـ والمولود أصلا فی أرمینیا سنة 495 هـ، الذی قرّب العلماء وأکرم الأدباء وکان هو شاعرا إمامیا، والعالم والریاضی والسائح أبو عبد الله الأرمنی المتوفى سنة 631 هـ، والعارف أبو القاسم بن محمد الإیروانی المولود فی العاصمة إیروان والمتوفى فی تبریز سنة 1237 هـ، والفقیه الإمامی الشیخ عبد الکریم بن أبی القاسم الإیروانی، المولود فی إیروان والمتوفى سنة 1294 هـ، والأدیب والصحافی والسیاسی السوری رزق الله بن نعمة الله الحلبی الشهیر بـ "رزق الله حسون"، المولود فی حلب والمتوفى فی لندن سنة 1297 هـ، والخطیب الفقیه الشیخ علی أصغر بن محمد باقر الإیروانی، حیث سکن قزوین وتوفى فی المدینة المنورة سنة 1300 هـ، والأدیب والشاعر والصحافی السوری أدیب إسحاق، المولود فی دمشق والمتوفى فی لبنان سنة 1302 ه، والفقیه العالم الشیخ محمد بن محمد باقر الإیروانی المتوفى فی النجف الأشرف سنة 1306 هـ، والفقیه الخطیب الشیخ عبد الحسین بن علی أصغر بن محمد باقر الإیراونی، من علماء کربلاء المقدسة والمتوفى عام 1314 هـ، والفقیه السید علی بن عبد الله بن محمد الإیروانی، المولود فی إیروان والمتوفى فی النجف الأشرف سنة 1324 هـ، والأدیب العالم الشیخ فضل علی بن عبد الکریم بن أبی القاسم الإیروانی، وهو من علماء آذربایجان أرمنی الأصل توفى سنة 1337 هـ، والفقیه الأصولی الشیخ علی بن عبد الحسین بن علی أصغر الإیروانی، من أساتذة الحوزة العلمیة فی کربلاء المقدسة والنجف الأشرف ومات فی الثانیة سنة 1354 هـ، وغیرهم.

ولا تختلف أرمینیا عن مصر أو العراق أو إیران أو الشام وغیرها من حیث المقامات وقبور الأولیاء والصالحین، فهناک مرقد العباس بن إسحاق الموسوی وهو حفید إمام المسلمین موسى بن جعفر الکاظم المتوفى سنة 183 هـ ومنه أخذ لقب الموسوی، وفیها مرقد لأحد أحفاد محمد بن علی بن أبی طالب الشهیر بـ محمد ابن الحنفیة المتوفى سنة 81 هـ، وآخر لأحد أحفاد الحسن المثنى بن الحسن بن علی المتوفى سنة 97 ه، فضلا عن "المسجد الأزرق" فی العاصمة إیروان الشهیر بـ "مسجد کبود".

وکدلالة على التداخل العمیق بین المسلمین والأرمن یشیر المعد إلى ظاهرة زواج الحاکمین وأبنائهم فی الدولة الإسلامیة من الأرمنیات، ومثال ذلک: بدر الدجى أو قطر الندى، والدة الخلیفة القائم بالله (1031- 1075 م) وزوجة الخلیفة القادر (991- 1031 م)، وقرة العین أو أرجوان، أم الخلیفة العباسی المقتدى (1075- 1094 م)، وزوجة الخلیفة الفاطمی المستعلی (1094- 1102 م)، وزوجة الخلیفة الفاطمی العاضد (1160- 1171 م).

وخلاف أن المعالم التاریخیة والحدیثة للعلاقات الطیبة بین المسلمین والأرامنة، تقدم إشارات واضحة على حقیقة التراحم بین بنی البشر على أسس إنسانیة، وأمر الإعتقاد بدین أو مذهب متروک لتقدیر الإنسان نفسه، لأن القهر الآنی على معتقد أو دین فی معظم الأحیان مآله إلى نتائج غیر محمودة العواقب.